في هذا الحوار الذي يدور حول مجموعة أفكار خاصة تدور رحاها داخل عالم الموسيقا، الذي فلسفناه بطريقة نتمكن من خلالها من عرض حالات خاصة يتدرج داخل سلمها الموسيقي سائراً إلى دروب لا يمكن ترجمة أغوارها إلا بمصطلحات التصرفات الوليدة.
مجموعة من الأفكار نطرحها، على بعض من الشخصيات التي تَمتَهِنُ ذلك العالم، بغرض تفهُّم فلسفتهم الموسيقية من ناحية، وبغرض كشف جوانب هامة قد تكون غامضة، جوانب روحية بحتة، خارج سلطان الجسد، جوانب نقدية لجملة تصرفات شائعة داخل ذلك العالم - عالم الفن-
" كلُّ الصيغ الفنية المُتداولة ، وعلى الرغمِ من سعةِ اختلاف أنماطها يمكن إدراجها ضمن خانة التوحّد من حيث تألفها من جزئيات متراكبة عُصرت وحُصرت بفواصل متداخلة في تأليف دقيق، ومن ثم كوِّرت ولتتدفق من ذاكرة نمت وتربت في مدرسة الشعور المجمّل بروح لغز التوالد....
إذاً هو نمط آخر من الولادة البكرية......
وتحديداً للفكرة يمكن وسم ذلك بأن الصور الفنية المنتجة تكون قبلاً قوالب روحية، طاقية جاهزة تسبح بهيام في مدِّ محيط سمواتِ تواجدنا الخيالي...لها تواترات، ذبذبات خاصة، شيفرة معقدة، وتظل حائمة إلى أن تجد من تتواءم معها روحياً، شعورياً، فتتم الولادة بتدرج إلى أن تنضج تماماً الصيغة، ومعها لا يمكن تجاوزها لاحقاً."
بهذه النظرية التي تحاول رسم دروب العمل الفني نخوض مع الفنان ( تيار، Teyar ) حواراً، محاولين فلسفة الموسيقى بلغة أدبية، مستعرضين في عروضٍ نقدية أو تحليلية لجملة مشكلات نعيشها في الساحة الفنية.
فكرة:
إن عمر الموسيقى بعمر الجنس البشري، أجدادنا المتنقلون من كهف إلى كهف لم يكونوا قادرين على حمل الكثير من المتاع معهم، لكن علم الآثار الحديث يُظهر أنهم كانوا يحملون إلى جانب القوت القليل الذي يلزمهم آلة موسيقية.......
هل لك أن تعرض لنا بإيجاز معلومات عن تاريخ الموسيقا و ظهورها؟
( بداية إن وجود الموسيقا مرتبط بأول وجود للصوت في الطبيعة، وذلك التمازج في الغريب بين المألوف واللا مألوف، بين الهدوء والضوضاء، وكل ذلك الانسجام الغريب كان بداية أو مادة أولية لأصل الموسيقا، فمثلا لكي أتوصل إلى حقيقة هذا الأمر يمكنني أن اجمع كل ما يقع تحت يدي من أدوات المطبخ، والأخشاب، وأشياء مطاطية، وكؤوس، وأوراق ، وصوت غليان الماء وأشياء أخرى واضعها في حديقة ما اصدر منها أصواتا بخدش وحك وقرع وإذا سجلت كل ما كان يصدر منها لاستمعت إلى أصوات حيوانية لم يسبق لي أن سمعت مثلها أصوات غريبة جدا لم اكتشفها وأتخيلها أبدا.
هذا ما فعله الإنسان منذ أول محاولة له للوصول إلى حقيقة الحياة من حوله فقد كان الصوت مثلما اللون أول ما كان يثير فضوله. وكلُّ هذا حمّل الطبيعة فوق طاقتها وجعلها تولد أشياء جديدة عليها لذلك ومن هذا المنطق الكثير من النقاد نفوا حقيقة انتماء الموسيقا للطبيعة لما فيها من أصوات لا يمكن انسابها لمكنونات الطبيعة لكنني أرى بان أنانية الإنسان تقف وراء هذا السرّ فقد كانت رغبة الإنسان في السيطرة على كل ما كان من حوله أولى محاولات التحول الصوتي من الضوضاء والصخب الطبيعي إلى شيء منظم لان الإنسان حاول ان يقولب وينظم كل الأشياء التي كانت تقع تحت يده والموسيقا هذه هي خلاصة قوننة الإنسان لأصوات الطبيعة ولهذا اسميها المرحلة الأولى لتحول الصوت الهمجي إلى صوت موسيقي.
أما الخطوة الثانية فقد كانت رغبة الإنسان في إصدار الأصوات التي تثير فيه الحزن، السعادة، النشوة، وتطور هذا المفهوم إلى أن تم اختراع الآلات الموسيقيا القادرة على إصدار أصوات شبيهة لما كان يسمعها واسمها " آلة المحاكاة " ومن هنا ظهرت الموسيقا على شكلها الصرف واقصد بالصرف صوت النغمة دون الكلمة والتي تعبر عن معاني غير محدودة، الألم، السعادة، الحب، الحزن....دفعة واحدة ولكي يحدد الموسيقار موضوع الموسيقا للمجتمع تم إضافة الكلمات عليها لتكون الموسيقا مؤلفة من لحن وكلمة فتكون مجردة ومحسوسة في ان واحد وهذا ما اسميه مرحلة اختراع الإنسان الصوت الموسيقي من أصوات أخرى لما فيه من نظام وعلى هذا الشكل تطورت الموسيقا لتكون علما صوتيا.
وببحث الإنسان عن حقيقة الكون ووصوله إلى قدرة الخالق الخارق جعل الإنسان الموسيقا والغناء وسيطا بينهم وبين الآلة المجسمة قديما والبعيد عن التجسيم حاليا"الله"
واعتبر تأليفها واجبا دينيا وكعنصر أساسي في العبادة إذ كانت الموسيقا ترافق الإنسان من المهد إلى اللحد وحتى إلى ما بعد ذلك وهذا ما اسميه بالموسيقا الدينية التي نشأت من عامل الخوف من الآلهة فكان الغناء وسيلة لتجنب غضبهم.
كما في موسيقا بلاد الرافدين ومصر والموسيقا اليهودية وفارس ويبدو ان الطقوس الدينية كانت تؤدي غناء بادئ الأمر ثم رافقت القيثارة الغناء ثم أضيفت آلة الناي ( Bilûr) عليها لكن العازفين لم يكونوا قادرين على عزف الآلتين معا لذلك كانوا يعزفون على النفخية بعد الفراغ من الآلة الوترية ثم توصلوا إلى إمكانية العزف غلى الآلتين وبهذا الشكل كانت الموسيقا ترافق ركب الحضارة البشرية فكانت صوتا معبرا عن تطور الفكر البشري.
لذلك فإذا أردنا استقراء مسيرة الموسيقا رأيناها مرافقة لمسيرة الأدب العالمي من الكلاسيكية ومرورا بالإبداعية ومن ثم الواقعية كما يمكنني الجزم أن الأدب الرمزي حاول أن يعتمد على خصوصية الموسيقا القائمة على إيحاء الصوت فقد أراد الأدباء أن يوجدوا لغة من لغة فتكون الكلمة في الأدب ذا معنيين المعنى الحقيقي وإيحائها الصوتي معتمدين بذلك على جرس الحروف وتناغمها مع بعضها لذلك قالوا إن الشعر موسيقا وصوت. )
فكرة: الفراغْ.
تلك المسافات الدقيقة المُتراكبة تباعاً، مؤلفة حالة خاصة تفرز نمطاً خاصاً، أثناء انغماسنا في بحرِ الحياة بتكرار روتينها وترتيب أحداثها.
ذلك الحيز الضيق المتزاحِم في أدق تفصيلة تعيشنا، في أوسع فكر نعيشه...
سواء أمثلناهُ بلحظاتِ سكون الخلوة الروحية، أم بفتراتِ النشوة بعيد إتمام أركان عمل، أو بلحظات انتظار ترجمة فكرة تتوالد، أم مثلناه بالفاصلِ بين كلمة وأخرى أو بين نقرة وترٍ وأخرى أو بين ضربة طبلٍ وأخرى.
إنها فترة، حالة احتيال للفكرة التي تحاول إعادة تلوينها، لإعادة البدء.
أنت أيناك منه؟ أتعيشه أم يعيشك الفراغْ.
( بين العلامةِ والعلامة, بين نقرة ريشةٍ وأخرى، بين الصمتِ والضوضاءِ فراغٌ، طريقةٌ حسابيةٌ، نسيجٌ من موسيقا.
لذا أعيشُ الفراغَ صمتاً يختبئ بين مقطوعتين، فأتركُ بعده لأذني متعة قفلة موسيقية.
أعيشهُ، برهةًً من هدوءٍ وخلوة، تنزِّهني، تحرِّر ذاكرتي من وداعِ أغنية.
أعيشهُ، سِكوناً قد يطول، لتليه ثورةٌ, فتُعتَّق الريشة بعده، وتربتُ الكلمة جناح النغمة، وتتشبث الأنامل بالوتر بنشوة، حينها يضاجع اللحنُ روحي، ويتخطّان معاً عنان الوطن، الحبيبة، الأم، والألم، ويرسمان لهم جميعاً وجهاً آخراً على صدى الصوتْ.
الفراغ، أعيشه قفلةً للحن يجرعني فنجاناً من حزنٍ لا ينتهي في مملكةِ الألمِ العظيم.)
فكرة: الانسجام..
نعيشُ عالماً تتداخلُ عناصرهُ في تناقضٍ وتآلفٍ وتماكبْ ضمن وحدة متضادة تؤلفُ لحناً أزلياً.
كلُ ما نراهُ أو ما نسمعهُ، وكل ما يحدث من حولنا " أوراق الشجر، تموجات ماء البركة، زقزقة العصافير، صراخ الأطفال..." كل الأصوات، كل شيء يتحرك بفوضى، بتآلف، بضجة، وينتظم على إيقاع، وتيرة ما في انسجام مع تفاصيل الجزئيات.
إنه لحنُ الحياة، الطبيعة، الذي ينتظمُ برتابة، وتناغم في أوركسترا حية أزلية تسير بروح وإحساسْ.
أنت تيارْ، أين تجد ذاتك في ذلك الانسجام الطبيعي، وهل تعيشه؟
( لطالما كانت الطبيعة ملجأً تهرب إليه الأرواح المغتربة، الهائمة، اللا منتمية إلى جغرافيا الجسد، ذلك الوطن الصغير الذي لا يتسعُ مداهُ لعنانِ خيالنا المطلق. كان من الضروري أن أشعر بقلق وجودي، و أن أحِنَّ إلى شيءٍ ما دون أن أستطيع وصفه، أو وسمه بالكلماتْ.
فكان لابد أن أتوه باحثاً عن زمن آخر، عن واقع آخر ، وأن أسافر إلى حضن الطبيعة البكر، لأجد في رحابها سلوى لروحي، وملجأً من كل ما كان يفسد عليَّ خلوة روحي وسكونها، وصمت الجملة وتلقيناتها.
فأعيش معها نمطاً خاصاً من السعادة، وأبكي معها، أثور معها، أنسجم بكليتي معها، وأمارس معها عادة التوحد فتكون مرآتي التي أترجم من خلالها اختلاجاتي العميقة، وحزني وسعادتي ونشوتي من خلال لغة الفنْ الذي هو عصارة تزاوجي الروحي معها.
والموسيقا عندما تأتي لاغية كل المسافات، راسمة لغة أخرى، لقوانين أخرى، مستعيدة إلى مسامعنا سيمفونية النقاء، وأغنية الصفاء، فهي التي تفتح أمام ذاكرتنا أبواب الالتحام بين الصوت واللون، فيصبح كلاهما ملهماً للآخر في تضاد متراكب، وتآلف دقيقْ. لذا أحاول دائماً أن أُذكِّر الطبيعة بعهد قوس قزحها، من خلال ألحاني الوالدة منها قسراً، وبذلك أكون وسيطاً وثالثاً بين توأمين منسجمين.)
فكرة: الانتشاء.
حالة خاصة من اللاشعور، من التحرر الجميل من سلطان الجسد، المادة..
إنه نمط من التفاعل، التأقلم الكلي مع اللحن،والغوص في تفاصيله.
إنه قدرة طاقية للخروج من الذات، ووسيلة من الارتقاء إلى الفضاء الروحي، إلى تلك العوالم الخفية، واكتشاف أبعاد جديدة..
كلٌ منّا يحمل في داخله طاقة هائلة مدخرة تحتاج إلى صيغة، شيفرة لتحريرها، ومن خلالها تتم المعجزاتْ.
إنه تحميل الجسد والروح ما يفوق طاقتها، وعقبها يكون الألم مثل المتعة أعظمْ...
هل تخوض بحور هذه الحالة السديمة؟
( كل عمل أقدمه، أصرف عليه ما أستطيع من جهد، وأضفي عليه ما أملك من طاقة روحية، وحتى كل عمل أختار عرضه، فيكون تناغمي معه وانغماسي فيه لدرجة أني كثيراً ما أنساق بتلقائية محضة في بحر الارتجال، والتفاعل الكلي مع دقائق اللحظة.
وعقبها يكون الألم أكثر، والنشوة أكبر.
صعبٌ أن تتمكن من التواؤم كلياً مع جماليات النص الذي تغنيه، في زمن صناعة الموسيقا، لكني تجاوزت تلك المعضلة بأن رسمت نمطي الخاص، فني الصحيح، فأنا تهمني الموسيقا دون المادة، يهمني أن تكون مقطوعتي مُشبعة لروحي، وقادرة على تسييرها، تحريرها.)
فكرة:
جملة الفنون هي لغة، وأنواعها لهجات تلك اللغة، نعيش حالاتها بروحنا، ونحاول أن نتعلم مفرداتها ، محلقين في بحور صورها في محاولات لكشف السر وتعلم المنهج.
لغة مجردة، مشفرة بتلقينات الروح، وأبعاد الخيال، وسيلة خارجة للتعبير عن عمق الشعور، وترجمة تبعيات الإحساس، تجعلك في حالة اتصال مع أشياء أعظم منك.
وسيلة اتصال بأشياء أقوى، وأكثر اقتدارا ورفعةً.
إنها ليست مجرد نماذج مقولبة تريحنا أو تلهينا، بل هي أبعد بكثير من ذلك، إنها إيديولوجيا، ترافقت كظل لجملة معتقدات الإنسان حتى كانت آلهة تمثلها!
هل لك أن تسهب في هذا الإدماج، الاتصال.
( " يميلُ الكثير من النقاد الموسيقيين إلى اعتبار الموسيقا رموزاً لأصوات ترسمها الأنامل وتتعرف عليها العين فتصدرها الحناجر والآلات لتلتقطها الآذان، وأنها حسية تستند إلى العقلْ. نتاج عمل منجز على الورق، نوطاتٌ تخاطب العين وليس الأذن" الموسيقي والناقد الألماني ثيودور أدرونو .
لكن أنا أرى أن ثيودور أدرونو في مقولته هذه استند إلى المادية متناسياً النشوة وعلاقتها بخفقان الروح، لذا يمكنني التأكيد أنّ النشوة والإحساس الضمني للموسيقي هما المعلم الأول والأخير لها، بدليل أنه لا يمكننا تنويط العريبات الصوتية لحنجرة محمد عارف جزراوي أو باقي خضر أو سعيد آغا جزيري وهم في عزِّ نشوتهم. فنرى الواحد منهم يؤدي أداءً رائعاً لا يعلم هو نفسه كيف أداه..! في حين يكون عاجزاً عن تكرارها في كثير من الأحيان بنفس الصورة، وهذه هي غفلةُ العقل، وحرية الروح، وهي نشوة الوجدان والروح السجينة في الجسدْ، لأنهم حققوا الإبداع العجيب، العظيم دون معرفتهم بأن الموسيقا رموزٌ، وأزمنةٌ، وفراغاتٌ، وإيقاعْ, وبذلك تركوا بين أيدينا تراثاً جميلاً،بل هوية لموسيقانا.
وتأكيداً أكثر، يمكنني القول بأن البشر كلهم بشر، لكنهم متفاوتون في طاقاتهم الجسدية والعقلية مثلما الروحية، والذين يسبحون في هيام الروح والإبداع يمتلكون إحساساً عميقاً، دفيناً يرفعهم إلى مراتب سامية، وقد يشعر الجميع بالألم إلا أنهم الأسبق، الأعمق، الأكثر تذوقاً لاختراقاته، ولأن الموسيقا هي ضربٌ من ضروب الإبداع، لها قوة خارقة، سطوة عظيمة، تتجاوز أفكار فلسفة الكون، وسلطة الدين، تخضع لها النفوس وتسيرهم حيثما تشاء، فاتحة أفق الخيال أمامهم، فينسون ذواتهم منصهرين في ذات متناغمة.
ولذا فإني أرى أن المبدع، هو الأقدر على التواصل مع الذات العلوية، والتوحد معها، وفي عزِّ هذه الرفعة نشوةٌ تفوق عظمتها أن أقدرَ على ترجمتها، بل سأترك المجالْ أمام سعة الخيال، الروح ليكون ترجماناً عني في نقل التصورْ.)
فكرة:
نجاح الأغنية شعبياً، جماهيرياً، ليس بالضرورة أن يعني نجاحها فنياً، منهجياً. أغنية الأسبوع تموت بانقضاء أسبوعها، لكن الأغاني الخالدة تظل كل أسبوع. هنا لسنا أمام فرضية تمثيل النجاح باستفتاء الجمهور، لكن نحن أمام معضلة أن يتمكن الفنان من تقديم شيء متكامل، ناضج تماماً، وأن لا تغرّهُ مظاهر الشهرة الآنية التي ينطفئ وهيج شمعها آنياً كذلك، كما أننا لسنا في خانة تجاوز دور الجمهور، وتقبله فنحن بالنتيجة جزءٌ منه.
أيناك من كل ذلكْ؟
( هنا لا بد لي أن أدخل في أزمة الفن والتجارة والتأثيرات الوليدة. فعندما ينحصر هم المغني وليس الفنان في جمع ثروة، واتخاذ درب الفن وسيلة ومصدر لكسب المال، هنا سوف يتم إذابة دور الموسيقا، وغياب المقطوعة الموسيقية الناضجة الصحيحة الحرة. فعندما يلحن ملحن أغنية في جلسة مستهلكة ويبيعها لصاحب أعلى عرض مادي، فإن هذه الأغنية ستموت في مدة أقصاها أسبوع. فاعتمادها الجوهري هو على حضور الشكل وغياب المضمون، وهذه هي أولى مشاكل الفن.
كما أن الايدولوجيا الراهنة هي إحدى أهم أسباب تراجع الفن، فلكي تحصل على الكثير من الدمى المفرغة من جوهرها وفكرها يصبح الهم مركزاً على تفريغ جميع الفنون من مضمونها متجاهلين غياب الحضارة جراء غياب الفن.
ولطالما كان الفن عامة والموسيقا خاصة من أهم المقاييس التي قيست عليها حضارة الشعوب وإرثها الفني، كما في قول جان بارو " وجدت حضارات من دون رسم ودون رياضيات حضارات حرمت من عجلة الكتابة والأدب لكن لم توجد حضارة دون الموسيقى"
لذا أقولها بصراحة وجرأة وداعاً للفن في ظل غياب الأذن الموسيقية، وهنا يتوه الفنان أيختار الشهرة ومغرياتها بسرعة، أم يكون سالكاً درباً آخر فيه يُمنهج فكره الموسيقي ويرسم لتقديمه بصورة تكون كاملة متجاوزاً معضلة التقبل السريع.
وهنا سأترك هامشاً لأهل النقد كي يتوقفوا على تصنيف ما أنتجه، أو ما أنا الآن بصدد إنتاجه.)
فكرة:
إرثنا الثقافي، الفني مشبّع بكم هائل من الإبداع والجمال والقوة، فيه صور وأحداث، وأنماط رائدة، مكثفة بصور التميز. ورواده كانوا أكفاء في تقديمه وتمديده، إذاً هم أدوا الأمانة بأمانة، ودورنا لماذا أراه ينحصر في محاولات لا تنتهي لتحديثه، لإعادة تقديمه، وتصويره.
أما كان حرياً بفنانينا إتمام مسيرة شعلة الرسالة بدل إعادة صياغتها؟
وهل ترى معي أنه يمكن القول أننا نسير بروية نحو فقدان هوية موسيقانا، وفنوننا تماماً، وخاصة أننا أصبحنا نتكل على النمط الغربي في الأداء ، وال‘نتاج متناسين الهوية الأصلية، والبيئة التي يجب أن تكون أساس كل عمل، وذلك الأمر بات يتجسد بشكل فعال مؤخراً من خلال بعض فنانينا الذين باتوا يتبنون النمط الغربي, وحاولوا إصباغ أدواته على فننا.
( قد يتناول أغلبية مغنيِّنا الفلكلور في أعمالهم، لكنهم يتفاوتون في غرض تناوله، فمنهم من يرغب بأن يخوض عالم الغناء، لكنّه لا يمتلك من مقومات إنجازه سوى الخامة الصوتية، فيختار أغنية فلكلورية، بسيطة الجملة الموسيقية والكلمة، لتنفَّذ على يد موزِّع موسيقي، وأمله بأن يحظى على إثرها بالشهرة دون أن يأخذ مهمة إحياء الفلكلور بعين الاعتبار وقد ينسى الأمانة الفنية فينسبها لنفسه، وهؤلاء هم يا صديقي هم الذين يعيشون دوامة الإعادة والتكرار والتطبع دون أن تكون لهم سمة تميزهم.
ومن الفنانين من يختار أغنية تراثية منسية، وهو العليم بجمالها وقيمتها موسيقياً وأدبياً، لكنها سُجِّلت بوسائل تقليدية وبأجهزة صوت قديمة، فبقيت منسية مخبَّأة ، ولم يسمع بها أحد، فيأخذ على عاتقه مهمة إعادة صياغتها بأداء جديد وبإخراج صوتي وتوزيعي نظيف لتحظى بولادة جديدة وبقامة موسيقية عصرية، وهذه عملية إحياء منهجية، وهي خلاصة مؤهل موسيقي رفيع، وثقافة عالية، هؤلاء هم الجديرون بالاحترام لسموِّ غايتهم التي هي إحدى الوسائل التي قد تُدخل فننا أبواب العالمية.
وما تقوله بشأن فقدان الهوية صحيح نسبياً، فالا لأمانة في الفن تكمن في أن أقتنص لحناً، أو نمطاً سائداً وأن أُلبسه الزي الكردي، مشوهاً المخارج الصوتية، مثلما يفعله بعض فنانينا وأذكر على سبيل المثال الفنان " جوان حاجو" فهو تلبّس النمط الغربي، فلم ينجح لا كردياً ولا عالمياً. لأنه لم يقدم هوية فنه للعالم كما أنهُ لم يُضف شيئاً إلى فنه الأصلي.
أنا مع تطبع الموسيقا باللون الغربي، كأن نؤلفَ لحناً كردياً ونضيف له أربيجات وخلفيات توزيعية ولوازم غربية مع المحافظة على الميلودي الخاص وستايل فننا.)
فكرة:
لم يتمكن فننا رغم عراقة فلكلوره من تجاوز عقبة الخروج من بوتقة الحالة، والانطلاق إلى العالمية، واحتلال دور له فيها. بحيث أننا بتنا نعيش دوامة الإعادة، والتكرار، والتطبع بسماتٍ خاصة، لا تُميزنا، ولا تؤثر في مسيرة فكرنا الفني.
( أنا أرى أن للموسيقا واجب علينا، هو أن نخترعها في كل زمان، ونولدها فكرة، منطلقين من بيئتنا المحلية، مركزين جلّ جهودنا في التفكير بآليات الارتقاء وليس التقليد، محملة في تفصيلات جملها اللحنية همومنا الوطنية، آلامنا، طموحاتنا البعيدة، وقادرة على أن تشخصنا للعالم، وأن تعرضنا كحضارة عريقة، وبأننا لسنا محصورين فقط بالقبب والبيوت الطينية، شريطة أن تحافظ على طبيعتها الأصل، طبيعتها المقامية، صدقها، روح تلحينها، طريقة تناول الجملة الموسيقية، لتبقى ذا هوية، وخصوصية.)
mamoste teyar